الفيض الإلهي ووحدة الوجود الإنساني
(تأملات في العلاقة بين الخالق والإنسان والكون)
كنتُ أتأمل ذات مساءٍ هدوءَ السماء، فإذا بها تُلقي على القلب سؤالها القديم المتجدّد:
من أنا في هذا الوجود الفسيح؟ وما سرّ تلك القوة التي تدير الأشياء بميزانٍ لا يختلّ، وتنسّق بين المجرّات كما تنسّق بين نبضة قلبٍ وقطرة ندى؟
ذلك السؤال لم يكن تحدّيًا للعقل، بل استدعاءً للفيض، إذ العقل وحده لا يكفي لإدراك ما وراء حدوده، بل يحتاج إلى إذنٍ من علٍ يُفتح له باب الفهم كما يُفتح باب النور في ظلمة.
إنّ الكون كلّه خاضع لنظامٍ واحد، لكنه ليس نظامًا ميكانيكيًا أعمى، بل فيضٌ واعٍ يصدر عن مصدرٍ مطلقٍ للعلم والإرادة.
فالسماء ليست مجرّد فراغٍ ماديٍّ معلّقٍ فوقنا، بل بنيةٌ منسوجةٌ بالطاقة والموجة والناموس، كلّها تسير بأمرٍ واحدٍ صادرٍ من العِلّة الأولى.
وفي هذا السياق، يكون الإنسان هو الحلقة الواعية في هذا النسق، إذ أوتي أداة الإدراك، لا ليصنع القوانين، بل ليكتشفها ويخضع لها عن بصيرة.
إنّ الفيض الإلهي ليس حدثًا عابرًا، بل نظام اتصالٍ دائمٍ بين الخالق وصنعته.
كل ومضة فكر، وكل ومضة إلهام، وكل كشفٍ علميٍّ حقيقيٍّ هو ترجمة بشرية لذلك الفيض، حين يلتقي الاستعداد العقلي بالإذن الإلهي.
فالله لا يُفيض عشوائيًّا، بل على قدر الاستعداد: فمن صفا ذهنه وطهرت نيّته، صار عقله قناة استقبالٍ للنور الكوني، يرى به ما لم يكن يراه، ويفهم به ما كان لغزًا بالأمس.
وهنا تتجلّى عظمة الآية:
﴿لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾
فالسلطان هو مفتاح الولوج إلى أسرار السماء — سلطان العلم المقرون بالهدى، والعقل المستضيء بالفيض.
ذلك السلطان لا يُمنح إلا لمن تهيّأ داخله لاستقباله، لأنّ الفيض لا يسكن في عقلٍ مغلق، ولا يمرّ عبر روحٍ معتمة.
وعندما يأذن الله، يتّصل الوعي الإنساني بالمصدر الأول، فيفيض عليه معرفةً تفتح له أبوابًا جديدة في الكون.
وهذا ما يحدث حين يُكتشف قانون فيزيائي جديد، أو يُفهم مبدأ كوني لم يكن معلومًا من قبل —
تلك ليست مصادفة عقل، بل استقبال عقلٍ لإشارةٍ من الفيض الإلهي،
تمامًا كما تلتقط الهوائيات موجة كانت تملأ الفضاء دون أن تُرى.
إنّ العلاقة بين الإنسان والخالق علاقة فيضٍ وإدراك:
فيضٌ من العلوّ يتنزّل، وعقلٌ في السفل يتلقّى، والكون هو المسرح الذي يشهد هذا التفاعل الأبدي.
فكلّ فهمٍ جديدٍ للطبيعة هو خطوةٌ نحو السماء، وكلّ تجاوزٍ لحدٍّ علميٍّ هو اقترابٌ من مركز الإرادة الإلهية.
ومن هنا يتجلّى الاتساق الأعظم:
1. خالقٌ عظيمٌ يدير صنعته بعلمٍ شاملٍ لا يغيب.
2. إنسانٌ مفكّرٌ مستقبِلٌ للفيض، مأذونٌ له بالكشف بقدر ما يصفو ويفكّر.
3. كونٌ مطيعٌ بالناموس، يفتح أسراره لمن أُوتي السلطان العلمي والروحي معًا.
تلك هي ثلاثية الوجود الإلهي الإنساني الكوني:
فيضٌ نازل، وعقلٌ صاعد، وناموسٌ قائم بينهما.
وحين يتّحد الثلاثة في وعي الإنسان، يبلغ ذروة مقامه، فيكون كما أراده الله: خليفةً بالعقل، عابدًا بالروح، مكتشفًا بالفيض.
إنّ السماء لا تُخالف قوانين الطبيعة، بل هي تجلّيها الأعلى.
وكلّ ما نسمّيه “علمًا” هو محاولة عقلٍ بشريٍّ محدودٍ لأن يقرأ آثار هذا الفيض في تفاصيل الكون.
فالنواميس التي نظنّها صلبة وثابتة، إنما هي في حقيقتها أنغام طاعةٍ لإرادة الخالق،
تتردّد في ذرات الوجود كما تتردّد في نبض القلب.
وهكذا يتجلّى المشهد الأخير:
الإنسان واقفٌ بين الأرض والسماء،
عقله مشدودٌ إلى العِلْم، وروحه معلّقةٌ بالفيض،
فإذا اتّحد النوران فيه، صار مرآةً للوجود،
يرى بعين المعرفة ما أراه الله، لا بعين الجسد وحده.
