مرثية أمةٍ لم تمت بعد
سيدي، ما أقسى أن تبكي أمةً كانت يومًا مشعلَ النور، فإذا بها اليوم تتلمّس طريقها في العتمة، تتعثر في خطاها، وتُمسك أطرافَ ماضيها بيدٍ مرتعشةٍ لا تدري ما تصنع به.
الضعيفُ لا مكان له في عالمٍ تحكمه القوةُ لاالضعف، والمصلحةُ لا المشاركة.
والحقُّ إن لم تحمه القوةُ ضاع، والفضيلةُ إن لم تجد من يفرضها غابت،فما يُفرض بالسلطان قد لا يُفرض بالقرآن.
هكذا يُختصر قانون الوجود: لا تُصان القيمُ إلا بسواعدٍ تدرك أن العدلَ لا يعيش إلا إذا حماه سيفٌ نزيه.
أبكي ضعيفَ العرب، وأشكو إلى ربي هوانهم على الأمم.
أبكيهم لا لأنهم بلا أرضٍ، بل لأنهم بلا وعيٍ يصون أرضهم.تفرّقت كلمتُهم، وضاعت بوصلتُهم، وتنازعوا على فتاتِ السياسة حتى صار قرارُهم مرهونًا بغيرهم،فلم يعودوا أصحابَ قضية، بل أوراقًا في لعبةٍ لا يعرفون قواعدها.
أبكي حاضرًا تاه فيه شبابُنا، فلا هم تمسّكوا بتاريخٍ يرويه المجد،ولا هم وعَوا علومَ عصرٍ تقوده العقول لا العواطف.
ضاعوا بين صفحاتٍ من تراثٍ لم يفهموه، وشاشاتٍ من واقعٍ لم يدركوه.تعلّموا أسماءَ المخترعين، ولم يتعلّموا معنىالاكتشاف؛وحفظوا سِيَر الأجداد، ولم يرثوا عنهم الكبرياء.
يتغنّون بماضٍ لم يسكن وجدانَهم، ويقلّدون حاضرًا لا يُشبههم،فلا هم أبناءُ حضارةٍ، ولا أبناءُ ثورةٍ فكرية، بل أبناءُ فراغٍ تملؤه الضوضاء.
قد ترى أممًا جاثيةً على أوتادها، تشكو ملماتِ عصرٍ ضاع فيه وقارُها،وأخرى تعلو بعلمها دون تاريخٍ يُذكَر.
فما بال أقوامٍ فُتنوا بما لا يحمل لهم التاريخُ ذكرًا؟
يتباهون ببريقٍ زائفٍ، ويقيسون قيمتَهم بما يلبسونه لا بما يصنعونه،حتى صارت الحضارةُ عندهم قشرةً من مظاهرَ فارغةٍ، لا جوهرَ فيها ولا روح.
أبكي نخبةً عميت، وعقولًا غفلت، وعلماءَ سطّحت أفكارهم،وشبابًا تائهين، وشيوخًا عجزوا، وحكامًا كالدمى،وشعوبًا أنهكها خبزُ اليوم حتى نسيت غايةَ الغد،وأطفالًا بلا مستقبل، ورُضّعًا بلا عائل.
أبكي لأنني أرى أمةً تملك كنوزَ الأرض، لكنها أفلست من الوعي،وتقرأ كتابَ السماء، لكنها هجرت فقهَ الحياة.
ومع ذلك، لا أبكيها يأسًا، بل محبةً وإيمانًا بأنها لم تمت بعد.ففي رمادها قبسٌ لم ينطفئ،وفي صدور أبنائها — رغم الألم — بقايا نورٍ قادرةٌ على أن تُعيد للأرض وجهها الإنساني.
إنها لا تحتاج إلا أن تتذكّر من تكون، وأن تعلم أن القوةَ لا تُشترى من الغير،بل تُستعاد من داخلها: من عقلٍ يستيقظ، وإرادةٍ تنهض، وفضيلةٍ تعرف أن الله لا يُمكّن للضعف،بل للمؤمن القويّ الذي يربط الإيمان بالفعل، والحقّ بالقوة.
