حين أبصرت القيّوم
كنتُ كلما أمعنتُ النظر في الكون، ازددتُ يقينًا أن وراء هذا الاتساق المذهل سرًّا لا يُرى، وأن كل حركةٍ، مهما دقّت، تسري فيها إرادةٌ أزلية تحفظها من الفوضى والانهيار.
تساءلتُ: ما الذي يُمسك الأفلاك في دورانها؟ وما الذي يمنع الغلاف الجوي من التبدّد في الفضاء؟
علمتُ أن ما نسميه "قوانين الطبيعة" ليس إلا كلماتٍ من أمر الله أودعها في الوجود ليعمل بذاته، لا استقلالًا، بل امتدادًا لفعله الذي لا ينقطع، فالأشياء لا تملك في جوهرها سبب بقائها، بل تستمد وجودها من قوله الدائم: كن فيكون.
رأيتُ بعين التأمل أن الكون أشبه بدائرةٍ كبرى مغلقةٍ بإحكام، تحيط بها السماوات طبقةً فوق طبقة، كأنها سورٌ نورانيّ يحدّ الوجود المادي ويحفظ نظامه.
وفي داخله تسير المجرّات والكواكب والذرات وفق نظامٍ واحدٍ لا يختلّ، كآلةٍ حيّةٍ تعمل بلا إشرافٍ مباشر، لأن يد الخالق قد أحكمت تصميمها لتعمل إلى ما شاء الله.
فقلتُ في نفسي:
ما أعظم هذا الإله، الذي تجلّت قدرته في أن خلق نظامًا لا يحتاج إلى تعديل، لأن الكمال أُودع فيه من البدء.
تذكّرتُ موسى عليه السلام حين قال: "ربِّ أرني أنظر إليك"،
فأجابه ربّه أن الجبل لا يحتمل تجلّيه، فدُكّ الجبل وخرّ موسى صعقًا.
فهمتُ أن قرب الله ليس قربَ مكانٍ، بل قربُ هيبةٍ وجلال، وأنه لو اقترب نورُه من حدود المادة لذابت أمام عظمته.
ثم سمعتُ صدى الآية في أعماقي:
"وما كان لبشرٍ أن يكلّمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب."
فعرفتُ أن الحجاب هو السماء، هو حدود الممكن أمام اللاممكن،
وأن الله لا يُدرَك بالعين، بل يُستشعَر بالحضور.
حينها أحسستُ به في داخلي…
لا كشيءٍ يسكنني، بل كنورٍ يسري في كياني،
كنَفَسٍ يُذكّرني أن الحياة منه وإليه.
سمعتُ في سكوني قوله تعالى:
"ونحن أقرب إليه من حبل الوريد."
فعلمتُ أن هذا القرب ليس مسافة، بل قيّومية،
فهو الذي يُقيم وجودي في كل لحظةٍ دون أن أنفصل عنه،
هو فيّ لا بذاته، بل بفعله الذي يُحيي كل خليةٍ فيّ.
وكلما أمعنتُ في هذا الوجود، أدركتُ أن عظمة الله لا تتجلّى في كثرة أفعاله، بل في وحدة فعله،
في أنه لا يحتاج إلى وسطاءٍ أو أعوانٍ،
فالملائكة، وإن كُلفوا بالتنفيذ، ليسوا وسطاء عن عجز، بل مظاهر لقوةٍ واحدةٍ تتجلّى بطرقٍ لا تُحصى،
كالشمس التي تنعكس في آلاف المرايا، والنور واحد.
ثم بلغ إحساسي به حدًّا لم أعد أبحث فيه عن الدليل؛
صرتُ أراه في انتظام النجوم، وفي انحناءة الغصن، وفي نبضي الذي لا أدري من يوقظه.
شعرتُ أنني أعيش في كونٍ محدودٍ بعظَمةٍ لا تُحدّ،
وأن لا نهائية الوجود ليست في حجمه، بل في عجز عقلي عن إدراك حدوده.
وحين يخطر ببالي لقاءه، لا أراه لقاء نظرٍ أو عين، بل لقاء وعيٍ كاملٍ عاد إلى أصله،
لقاءَ روحٍ اشتاقت إلى وجهٍ لم تره، لكنها كانت تحسّه دائمًا في أعماقها.
فما أعظم أن تدرك، في سكون اللحظة،
أنك لست وحدك في هذا الوجود،
بل أنت نَفَسٌ في صدر الخلود،
تُقيمك إرادةٌ لا تنام، وتُديرك يدٌ لا تُرى،
هي يد القيّوم… الحاضر بلا حضور.

كلماتكم لامست شيئا عميقا في القلب كتلك السكينة لحظة الدعاء ،حتى أني خلت أن الحروف قد سجدت قبل أن تُكتب ،وجدت نفسي أعود لقراءتها مرارا لصدقها الذي يشعر قارئها بقرب من الله
بارك الله في علمكم ونفع بكم وجعل ما تكتبون نورا يهدي القلوب إلى الخالق الوهاب .
ماشاءالله..دقة الوصف