جنون العظمة… حين يفقد العالم رشده
ثمة زمن يختلط فيه الحلم بالهوس، والعظمة بالجنون، والقيادة بالغرور... ذلك هو زماننا اليوم.
العالم يسير بخطى واثقة نحو المجهول، وكأن قادته في سباقٍ لامتلاك المجد ولو على حساب البقاء.
من يملك السلاح، من يملك المال، من يملك الذكاء الاصطناعي — كلٌّ يظن أنه الإله الجديد فوق الأرض.
العالم اليوم كبرميل بارودٍ وُضع في عراء شمسٍ حارقة، لم يبقَ على انفجاره سوى عود ثقابٍ صغيرٍ في يدٍ ترتجف بين الطمع والخوف.
لقد اكتملت تقريبًا كلّ أسباب الانفجار؛ فكلّ طرفٍ يحمل في جيبه نارًا، وينتظر اللحظة التي يظنها فرصته التاريخية ليُشعلها.
الصين قالتها ثم فعلتها.
أوقفت استيراد الفول من أمريكا، ومنعت تصدير المعادن النادرة التي تمثل شريان الصناعة الإلكترونية والعسكرية الحديثة.
وفي المقابل، يحاول ترمب أن يساوم روسيا على أوكرانيا، لا من أجل الجغرافيا فحسب، بل من أجل معادنها النادرة التي تُقدّر قيمتها بتريليونات الدولارات — ما يجعل أوكرانيا في نظر القوى العظمى منجم المستقبل لا مجرد ساحة صراع.
الأطماع لبست ثوب الحرب، واللاعبون أعدّوا رقعتهم، ولم يبقَ سوى من يملك الجرأة على تحريك أول قطعة.
ما سيجري في بودابست بين ترمب وبوتين لن يكون اجتماعًا بروتوكوليًا، بل معركة عقولٍ مغلقة الأبواب.
إن لم يتوصلا إلى اتفاقٍ يُعيد توزيع الغنائم، فسيُكتب على أوروبا أن تكون ساحة الدمار القادمة.
فترمب ليس رجل حربٍ بطبعه، لكنه مقامر لا يعرف التراجع، بينما بوتين يقرأ التاريخ بعين قيصرٍ يسعى لاستعادة المجد الضائع.
أما أوروبا، فقد تآكلت قوتها بين تبعيةٍ اقتصاديةٍ لأمريكا، واعتمادٍ طاقيٍ على روسيا، وتفككٍ داخليٍ يُنهكها.
ولذلك، إن اشتعلت الحرب القادمة، فستكون أوروبا أول من يدفع الثمن، والساخرون كُثُر.
تأمل، سيدي، في وجوه اللاعبين الكبار:
ترمب مغامر حتى التهور، يرى العالم رقعة كازينو عملاقة.
بوتين مفتون بميراث القياصرة، يسعى لترميم التاريخ على أنقاض الحاضر.
شي جين بينغ يتوهّم أن "اللحظة الصينية" قد حانت، وأن القرن الحادي والعشرين سيُكتب بلغة الماندرين.
أما الآخرون، فيتقمّصون أدوار العظماء، حتى صغار الدول باتوا يقلّدونهم في جنونهم، كأنما العظمة صارت وباءً عالميًا لا شفاء منه.
ألستَ معي في أن جنون العظمة قد تفشّى في قاعات الحكم عبر القارات؟
كلٌّ يظن نفسه قدرًا من أقدار التاريخ، لا يُراجع ولا يُحاسب.
ترمب يريد اقتسام أوكرانيا مع روسيا، وضرب فنزويلا لابتلاع نفطها، وتحجيم الصين تجاريًا، واستنزاف أوروبا بشراء الغاز الأمريكي.
الصين تستعد لابتلاع تايوان في لحظة ضعفٍ أمريكي،
وروسيا تعيد رسم حدودها على خريطة الحرب،
وإيران تُمسك بجمر العقوبات وهي تلوّح بالنار في الخليج،
والهند تسير بخطى صامتة نحو مركز القرار العالمي،
بينما كوريا الشمالية تمارس الجنون كوسيلة وجود.
وفي خلفية المشهد، تدور حرب أخرى لا تُرى: حرب العملات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، حيث تحاول كل قوة أن تحتكر الذكاء كما كانت تحتكر النفط من قبل.
هنا تتجلى الحقيقة المرعبة: أن الصراع لم يعد على الأرض وحدها، بل على العقول أيضًا.
أتُرى في هذا العالم حاكمًا رشيدًا بعد؟
لقد صار الحكّام ثلاثة:
من توهّم العظمة حتى بلغ الجنون،
ومن داهن حتى ذاب في النفاق،
ومن ابتعد وخنع حتى النكوص.
وبين هؤلاء، ضاع صوت الحكمة، وتُركت الشعوب تتخبط بين من يجنّ بعظمته، ومن يهرب من مسؤوليته، ومن يرضى بالانكسار سبيلًا للسلامة.
لكن التاريخ لا يرحم الغافلين، فحين ينام الوعي... تستيقظ المأساة.
حين يتصارع الكبار على مجدٍ زائل، تنهض الحقيقة من تحت الركام لتسأل:
من يحكم العالم حقًا؟
من امتلك القوة... أم من تجنّب الجنون؟
العظمة الحقيقية ليست في امتلاك السلاح أو المال، بل في امتلاك الرشد حين يفقده الجميع.
ولأن العالم فقد رشده، فربما حان الوقت لأن يُولد من رماده وعيٌ جديد... ووعيٌ راشد.
تلك رؤيتي، ولعلي مخطئ.

