الديمقراطية: دين حضارة لا فكرة عقل
الحضارة لا تُبنى بأنظمة، بل تُبنى بإنسان.
وإن أردت أن تُقيم بنيانًا يخص البشرية، فابحث أولًا عن هذا "المفرد" الذي اسمه الإنسان، لأن "البشرية" مجرد جمعٍ هش، ما لم يكن فيه الإنسان حيًا… حرًا… صحيحًا.
فالإنسان، يا سيدي، هو الأساس.
إن هُدم أو غُيّب، سقط معه كل ما بُني فوقه من أفكار وسياسات ومناهج.
لذلك، دعنا نُفكك الحياة كما هي، ثم نعيد بناءها كما ينبغي:
الحياة… كيف تُبنى؟
الحياة ليست رفاهية، بل تتكوّن من أربعة أركان:
1. المعيشة: ضرورات الغريزة من طعام وسكن وأمن، يشترك فيها الإنسان مع النبات والحيوان.
2. العقل: التعليم، الفهم، الوعي، الاكتشاف، البناء، المحاكاة، وابتكار الجديد.
3. الروح: الإيمان، الطموح، الأمل، الأخلاق، المعنى.
4. الكماليات: الزينة، الفنون، اللهو، الترف، مظاهر التميز والتفاخر.
على هذه الأركان الأربع تقوم الحضارات.
وحين يغيب أحدها – أو يتضخم على حساب الآخر – تولد حضارة مشوّهة، ناقصة، أو مزيّفة.
الإنسان الحرّ… نواة الحضارة
> أعطني إنسانًا حرًا، وواعياً، وصحيحًا، يحيا بكرامة… أصنع لك حضارة.
هذه ليست أمنية شاعر، بل قانون الحياة.
لأن الحضارات تبدأ من الداخل: من نوع الإنسان، لا من نوع النظام.
ولم تكن الديمقراطية ولا الشيوعية في يوم من الأيام، شرطًا في قيام حضارة عادلة أو مزدهرة.
بل التاريخ البشري شهد آلاف النماذج التي أدار فيها الناس شؤونهم برقيّ وأخلاق وإنسانية، دون أن يكونوا قد سمعوا يومًا بكلمة "برلمان" أو "حزب معارض".
العقل… هو الذي صنع الديمقراطية
الديمقراطية لم تهبط من السماء.
إنها مجرد فكرة أبدعها العقل البشري بعد تجارب طويلة مع الممالك والطغيان والكنيسة.
وقد كانت استجابة لحاجة مجتمعية في لحظة تاريخية معينة، لا أكثر.
وذلك العقل، الذي أنتج الديمقراطية، قادرٌ على أن يُنتج ألف منهجٍ غيرها،
أكثر عدلًا، وأشد إنسانية، لو أُعطي حرية التفكير والتجريب.
لكن ما حدث لاحقًا كان صادمًا…
من فكرة عقل… إلى دين حضارة
الغرب، حين جعل الديمقراطية أساس حضارته الحديثة،
لم يتعامل معها كأداة يمكن إصلاحها أو تجاوزها،
بل أنزلها منزلة الدين.
فصارت الديمقراطية عنده "الحق المطلق"، و"الواجب الكوني"،
وصار من يشكك فيها عدوًا للتقدم، كمن يشكك في الوحي!
ثم ما لبث أن أسقطها على الشعوب الأخرى قسرًا، ولو لم تكن من ثقافاتهم أو أولوياتهم،
وكأنها رسالة سماوية لا يجوز ردّها أو التعديل عليها.
الهيمنة تحتاج صورة… لا حقيقة
الديمقراطية في حد ذاتها قد تكون وسيلة جيدة،
لكن ما جعلها مشكلة هو الصورة التي رُسمت لها، لا حقيقتها على الأرض.
فأمريكا، مثلًا، التي تدّعي أنها "بلد الحرية"، لا تحتل المركز الأول في مؤشرات التعليم، ولا في العدالة، ولا في الصحة.
بل وصل بها الأمر في عهد ترامب أن ألغى وزارة التربية والتعليم!
فأي ديمقراطية هذه التي تُفرّغ الإنسان من معانيه ثم ترفعه شعارًا فوق المنصات؟
وفي المقابل، تظهر دول مثل الإمارات، التي أنشأت وزارة للسعادة،
لتُرسل رسالة معاكسة مفادها:
> "ليست الديمقراطية غايتنا… بل إنساننا."
الديمقراطية صورة بقاء، لا مشروع ارتقاء
الديمقراطية – كما تُروّجها الحضارة الغربية – لم تعد نظامًا سياسيًا،
بل صارت أداة بقاء وهيمنة.
فإن سقطت الديمقراطية، سقطت صورتهم.
وإن اهتزّت، اهتزّت مشروعية حضارتهم.
ولهذا يُدافعون عنها كما يُدافع المؤمنون عن دينهم،
لا لأنهم يؤمنون بعدالتها… بل لأنهم يخافون من سقوطها.
النداء الأخير: الإنسان أولًا
يا سيدي، إدارة الشعوب لم تكن يومًا حكرًا على الديمقراطية ولا على الشيوعية،
بل كانت – ويجب أن تعود – إلى الإنسان: حريته، ووعيه، وكرامته.
> فابدأ بالإنسان… ثم اختر له النظام.
لا تبدأ بالنظام… ثم تحاول صناعة إنسان على مقاسه.
الديمقراطية: دين حضارة، لا فكرة عقل.
وهذه الجملة، على تناقضها الظاهري، تؤكد الحقيقة الكبرى:
أنهم حين قدّسوا النظام، نسوا الإنسان.

