القانون بين النص والروح ...
لماذا لا يخاطب الجميع؟
رغم الجهود الحثيثة التي تُبذل لصياغة القوانين الوضعية، ومرورها بمراحل طويلة من التجريب والتقنين والتعديل، فإنها تظل قاصرة عن تحقيق العدالة الشاملة.
فكل قانون — مهما بدا محكمًا — لا ينجو من الاختراق، لا لفساد في الناس، بل لأن فيه عوارًا بنيويًّا، يجعله غير قابل للتطبيق العادل على كامل أفراد المجتمع.
والأغرب أن هذه القوانين تُقَرّ برلمانيًا، رغم أنها — في أفضل حالاتها — لا تخدم سوى نحو 65% من المجتمع، بينما يُهمَل أو يُظلَم نحو 35%، وهم ممن يفترض أن تشملهم العدالة ذاتها.
والسبب؟ ببساطة: لأنها تخدم "المصلحة العامة"، كما يُقال، لكنها في حقيقتها مصلحة تُعرَّف غالبًا وفق ميزان القوة، لا ميزان العدل.
ولعل هذا القصور لا يكمُن في الصياغة فحسب، بل في المنبع نفسه:
فهي قوانين من إنتاج عقل بشري محدود، محكوم بتجربته ومصالحه، وعاجز عن الإحاطة بتعقيدات الواقع وتنوع البشر.
ومع ذلك، تبقى هذه القوانين قائمة... لماذا؟
لأن الشعوب تتفاعل معها بطرائق شتى، بحسب طبائعها:
- في أمريكا: يخاف الناس من القانون ذاته، فيخضعون له، وإن لم يؤمنوا بعدالته.
- في الصين: الخوف من العقوبة هو الرادع، لا احترام القانون نفسه.
- في اليابان: يحترم الناس القانون لأنه نابع من قيمهم الداخلية، فيتحول إلى جزء من ضميرهم الجمعي.
أما الشعوب التي لا تؤمن بالقانون أصلًا، ولا تعرف سوى لغة القوة والغلبة، فهناك تتهاوى هيبة القانون، وتخور قواه.
وحينها، تجد الحكومات نفسها في مأزق حقيقي:
كيف تُخضع شعبًا لا يُذعن للنظام إلا إذا اقترن بالقهر؟
فتبدأ الدولة بابتكار أدوات الردع، أو التحايل، أو حتى تشرعن القوة، فقط كي "يطيع" الشعب، لا لأنه آمن بالعدل، بل لأنه خشي الفوضى.
ثم يُطرح السؤال الجوهري:
لماذا يُخترق القانون في كل دول العالم؟
الجواب يُختصر في ثلاث طرق لا رابع لها:
1. التحايل عليه: حيلة من يُجيدون لعبة الثغرات، فينجون من النص، بينما يقع فيه غيرهم.
2. ازدواجية التطبيق: حين يُطبَّق القانون على الضعفاء بلا رحمة، ويُغض الطرف عن الأقوياء.
كما في الحديث النبوي الشريف: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد." (رواه البخاري ومسلم)
3. قانون الغلبة: حين يصوغ القوي "حقه" بسطوته، لأنه من الفئة التي لم يخدمها القانون، فلم يجد سبيلًا إلا في جبروته، لا في قاعة المحكمة.
وهكذا، لا يُخرق القانون لأنه وُضع للخرق، بل لأنه لم يُصَغ بعدالة، ولم يُطبَّق بإنصاف، ولم تُراعَ فيه فطرة الإنسان ولا جوهره.
فكيف نصل إلى قانونٍ يخاطب الجميع؟
الحل لا يكمن في المزيد من البنود، ولا في تشديد العقوبات، ولا في توسيع سلطة القاضي، بل في بعث الروح في القانون.
كثيرًا ما نسمع عبارة "روح القانون"، لكنها في الفكر الوضعي مجرد مجاز بلاغي، لا أثر لها في مواد التشريع.
أما الحاجة اليوم، فهي إلى قانونٍ تسكنه الروح، تُدرج في مسودته، ويُراعى حضورها في التطبيق، فتكون مرشدًا للقاضي، ومُعينًا للمشرّع، وسندًا للعدالة.
لا بد أن يحمل القانون في طياته بعدًا روحيًا وإنسانيًا، يجعل مطبّقيه يدركون أن العدالة ليست في الحرف، بل في الروح التي تسري فيه.
عدالة تُراعي الضعيف، وتضبط القوي، وتحترم الإنسان بوصفه إنسانًا، لا رقمًا في ملفات.
فلا قانون يخاطب الجميع، إلا إذا نبض بالضمير، ونطق بالحكمة، وتماهى مع فطرة الإنسان.

