دعائم النبوة … والطريق المفتوح إلى القرب من الله
النبوة ليست مرتبة بشرية يُسعى إليها، ولا مقامًا يُدرك بالسعي أو بالاجتهاد، بل هي اصطفاءٌ إلهيّ خالص، يختار الله له من عباده من شاء، ويهيئهم لحمل رسالته بوحيٍ مباشرٍ منه. هي قداسة لا تُكتسب، ونور لا يُستمدّ إلا من مصدره الأعلى. غير أنّ أنوار النبوة لا تنقطع بانقطاع الوحي، بل تمتدّ في التاريخ على هيئة بصائر يهتدي بها الصادقون. فكما أن الشمس واحدة لكن ضوءها ينعكس على وجوه كثيرة، كذلك النبوة: أصلها في السماء، وتجلياتها في الأرض من خلال من استضاءوا بنورها. هؤلاء ليسوا أنبياء، لكنهم ورثة النور، يسيرون على خطا الأنبياء في الوعي والإخلاص ونقاء الفطرة، دون أن يشاركوا مقامهم المقدّس أو يبلغوا درجتهم.
إنّ دعائم النبوة هي ذاتها دعائم الوعي التي أقام الله عليها بناء الإنسان الكامل: العلم، والعقل، والحكمة، والرشد، ونقاء الفطرة، والصبر، والإخلاص، والرحمة، والشمول. بهذه الصفات قامت رسالة الأنبياء، وبها أيضًا يقترب الإنسان من مقام النور. فمن علم فقد استبصر، ومن استعمل عقله فقد اهتدى، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ومن صبر فقد استحق الرشد، ومن أخلص فقد صار وعاءً للنور، ومن رحم فقد أحيا ما خمد من الإنسانية في الناس.
القرآن الكريم يحدّثنا عن صفوة من البشر، منهم من أُرسل بالوحي، ومنهم من بلغ من الصفاء ما جعله يسير في أفق النبوة وإن لم يُبعث بها. هؤلاء لم يكونوا أنبياء بالاصطلاح، لكنهم كانوا أنبياء في جوهر الوعي، وقد تجلت فيهم صفات القرب من الله بأشكال مختلفة.
مريم بنت عمران مثال الصفاء والطهر، لم تُكلّف برسالة، لكنها خوطبت بالملائكة كما يخاطَب الأنبياء، وأُلهمت كما يُلهم المصطفون. كانت صديّقة، والصدق أعلى مراتب الإنسان بعد النبوة. صدّقت بآيات الله، واحتملت الابتلاء في عزلة لا يسمع فيها إلا صوت اليقين، فكانت أمًّا لمعجزة ونموذجًا للإيمان المطمئن.
ولقمان مثال آخر، رجل لم يُوحَ إليه، لكنه أُوتي الحكمة التي هي ثمرة العقل المستنير والفطرة السليمة. علّم ابنه مكارم الأخلاق، وأرسى في وعي البشرية درسًا خالدًا: أن الحكمة لا تحتاج إلى منصب ولا وحي، بل إلى قلب يعرف قدر الله ويزن الأمور بميزان الحق. كان لقمان عقلًا متعبدًا، يرى في الكون نظامًا إلهيًا يستحق التأمل والاحترام.
أما الخضر، فكان علمه من لدن الله، علّمه الغيب والرحمة معًا. لم يكن نبيًا بمعنى الرسالة، لكنه كان وعيًا مفارقًا، يمثل البصيرة التي ترى ما وراء الحوادث، وتدرك أن القدر يحمل في ظاهره نقمة وفي باطنه رحمة. كان الخضر تجسيدًا لمعرفة لا تنال بالدرس بل بالصفاء، فالعلم الذي أُوتيه لم يكن من الكتب، بل من قربٍ خاصٍ بالله.
وفي قصر الطغيان، كانت آسية بنت مزاحم نورًا يقاوم العتمة. آمنت برب موسى رغم بطش فرعون، ورفعت دعاءها الهادئ: رب ابنِ لي عندك بيتًا في الجنة. لم تملك سلطانًا، لكنها ملكت الإيمان، وكان إيمانها ثورة روحية على كل ما يمثله الطغيان من كبرياء الأرض. هي تجسيد للقلب الذي ينتصر للحق وإن حُبس في القصور.
وذو القرنين، الحاكم العادل، جمع بين القوة والرشد، بين السلطان والضمير. لم يكن نبيًا، لكن وعيه العادل جعله مثالًا للحاكم الذي يرى السلطة أمانة، والعلم وسيلة للبناء، لا للهدم. وبهذا الرشد، اقترب من جوهر النبوة دون أن يحمل وحيها.
وهناك رجل يس، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ليس نبيًا ولا ملكًا، بل إنسان صدع بالحق في وجه الغفلة. كان وحده أمّة، لأن الإيمان الصادق يصنع من الفرد أمة، ومن الصوت الصادق رسالة.
كل هؤلاء، وإن لم يُبعثوا أنبياء، فإنهم ساروا على نهج النبوة في جوهرها: صفاء النية، إخلاص القصد، رحمة الخلق، وتعظيم الحق. لقد أغلق الله باب النبوة، لكنه لم يغلق باب القرب منه. الطريق ما زال مفتوحًا، والعروج ممكن لكل من زكّى نفسه وطهّر قلبه واستعمل عقله في معرفة الله.
القرب من الله ليس معجزة خارقة، بل وعي متدرّج. من أحبّ الخير علمًا وعدلًا ورحمة، فقد سار في طريق الأنبياء، ومن زكّى قلبه من الكبر والرياء فقد اقترب من سرّ النور الذي حملوه. فالنبوة وعي لا يُختم، بل يستمر أثره في قلوب من صدقوا في طلب الحق.
هكذا، تظل النبوة في جوهرها حالة من الوعي المستمر، حضورًا إلهيًا في الإنسان لا يزول. إنها ليست زمنًا مضى، بل سبيلًا مفتوحًا لكل من شاء أن يسمو بروحه ويستعيد صفاء فطرته. فالله لا يحجب نوره عن من طلبه، ولا يمنع قربه عن من صدق في حبه. الطريق إليه لا يُغلق، ومن سار فيه بالصدق بلغ، ولو لم يُوحَ إليه، لأن القرب مقام، والنبوة وعي، والإنسان الكامل هو الذي يجعل من قلبه مرآةً لذلك النور.
