الفيض… غيث من الغيب
ينزل الغيث من عليائه، لا ليُحدِّثنا عن البحر ولا السحاب، بل ليُخرج من جوف الأرض نبتًا يسبّح بالحياة.
فالبحر، والشمس، والرياح، والجاذبية، والسحاب، كلّها وسائط في يد القدرة، تؤدي دورها بإتقانٍ مهيب، لكنها ليست الغاية.
الغاية هي النبت، هي الحياة التي تُولد من لقاء الغيب بالتراب.
وكذلك الفيض الإلهي،
ينزل لا ليُعظّم من استقبله،
بل ليُثمر به في أرض القلوب والعقول.
فالذي يُصيبُه الفيض ليس إلا أرضًا طيّبة استعدّت لاستقبال البذرة النورانية،
كما تستعد الأرض لنقطة الماء في زمن القحط.
الفيض لا يختار الأسماء ولا المذاهب ولا العناوين،
بل يبحث عن الاستعداد،
عن صفاء الفطرة، ورقّة الوجدان،
عن عقلٍ يتهيّأ لأن يكون مرآةً للنور، لا حاجزًا دونه.
فقد يُفيض الله على قلبٍ لم يعرف طريق المسجد،
ويحجب عن آخرَ أمضى عمره بين الطقوس والظنون،
لأن المعيار ليس الشكل، بل القابلية.
الفيض كالمطر،
ينـزل على الجبال والسهول، على الطاهر والمدنس،
فمن كانت أرضه نقية أنبتت،
ومن كانت صخرًا لم تزد إلا صلابة.
ولذلك يتقدم الكافر أحيانًا ويتخلف المؤمن،
لأن الأول استعدَّ بالفكر والجهد والانتباه،
والثاني غفل وظنّ أن الإيمان وحده يُنبت بلا حراثة.
إن الله لا يعنيه السحاب الذي حمل الماء،
ولا الريح التي ساقته،
بل يعنيه أن يخرج النبت.
فوسائط الفيض لا تملك الفضل، إنما الشكر للنور الذي أفاض.
كذلك الإنسان،
إن أُفيض عليه علم أو إلهام أو حكمة، فليس له الفضل،
بل هو مجرد حامل رسالةٍ ليست له،
أُرسل بها ليؤدي أمانة الوصول، لا أمانة التملّك.
فالفيض الإلهي رسالة متجددة،
لم تنقطع بانقطاع الوحي الظاهر،
بل تبدّلت وسائطها من الأنبياء إلى العقول المؤهَّلة،
ومن الرسالة السماوية إلى الإلهام العقلي والوجداني.
فما دام في الأرض من يُحسن الاستقبال،
فإن السماء لا تبخل بالإرسال.
المهم ليس المطر… بل النبت.
والمهم ليس الوسيلة… بل الفيض.
والمهم في الفيض أنه نور هدى،
يتنزل على من استعد له عقلٌ واعٍ، وفطرةٌ صافية، وروحٌ مقبلة.
