قانون من لا يملك لمن لا يستحق
"لم تعُد الأرضُ تتسعُ لأهلها...
لا لأن مساحتها تقلّصت، بل لأن النفوس اتسعت طمعًا وتقلّصت رحمةً."
في زمنٍ طغت فيه الصورة وسادت حضارة المنفعة، تراجعت المبادئ الكبرى، وغُيِّب الوعي، وانحسرت القيم. تحوّل الإنسان من كائنٍ يُسكن الأرض إلى كائنٍ يُصارع لأجل امتلاكها، لا بوصفه وارثًا عن خالقه، بل بوصفه مستهلكًا تحكمه شهية لا تشبع.
لم تعد الموارد نعمةً مشتركة، بل أصبحت ملكيات خاصّة، محكومة بعقود، محروسة بالجيوش، ومحصّنة بالقوانين. قوانينٌ لم تُبنَ على قاعدة "الحق"، بل على قاعدة "المنفعة"، حيث من يملك أدوات القوة يُشرعن ما يستولي عليه.
الأرض كانت وقفًا للإنسانية
لقد خُلق الإنسان ليكون مستخلفًا، لا متملّكًا، في أرضٍ لم يصنعها.
في الشرائع الإلهية، كانت الأرض والماء والهواء مشاعًا للبشر، لا تُباع ولا تُحتكر.
قال رسول الله ﷺ: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار."
وقال جون لوك: "الملكية الحقيقية لا تأتي إلا من العمل."
لكن مع بزوغ الدولة القومية الحديثة، وترسُّخ النظام الرأسمالي العالمي، تحوّلت الأرض من كونها موردًا مشتركًا إلى أصلٍ رأسمالي يُباع ويُشترى ويُرهن ويُحتكر، ولم تعد الملكية تعني إعمارًا، بل امتيازًا يُمنح بسلطة الوثيقة، لا بالحق الطبيعي.
من الملكية الطبيعية إلى الملكية الورقية
لم تعد هناك بقعة على الأرض إلا ولها "صك ملكية" مُسجَّل في ديوان ما، حتى الصحارى المقفرة والجبال العارية وقيعان البحار. لم يعد يُعترف بالارتباط التاريخي أو الإعمار الحقيقي، بل بما تحمله يدك من ورقة مختومة.
فهل تساءلنا: من منح الإنسان الحق في إصدار ملكياتٍ لما لم يصنعه؟
وبأي شرعية سُنّت تلك العقود؟
هل بالقانون؟ أم بالتاريخ؟ أم بالمصلحة المتبادلة؟ أم... بالقوة؟
الملكية في جوهرها باتت تُوزَّع لا بالعدل، بل بالنفوذ. وظهر ما يمكن تسميته بـ "قانون المنفعة":
من يملك، يُمنح المزيد؛ ومن لا يملك، يُقصى... ولو كان أحقّ.
قوانين ظاهرها التنظيم وباطنها الهيمنة
تحت لافتات مثل "قانون أملاك الدولة"، و"من أين لك هذا؟"، و"قانون مكافحة غسيل الأموال"، تُدار اليوم لعبة السيطرة على الموارد.
- "قانون أملاك الدولة" يُمكِّن الحكومات من استرداد أو مصادرة أراضٍ زُرعت لعقود، فقط لأنها لم تُسجَّل في الوقت المناسب.
- "من أين لك هذا؟" يُجيز التشكيك في ملكية أي شخص محدود الحيلة، دون مبرّر قضائي، وكأن الشبهة تحلّ محلّ العدالة.
- "قانون غسيل الأموال" بات ذريعة لمصادرة الأموال دون محاكمة، خاصة إن لم تكن تابعة لمنظومة النفوذ الرسمية.
حتى المياه، لم تسلم. فمحظور على الفلاح حفر بئر دون ترخيص، وفي بعض الدول يُمنع جمع مياه الأمطار.
أما الشركات، فقد سجّلت حتى البذور والهواء براءات اختراع لصالحها، وأُبرمت اتفاقيات دولية منحت السواحل امتياز السيادة على البحار.
كل هذه القوانين، وإن اختلفت في ظاهرها، تنبع من فلسفة واحدة:
**أن ما يُملك بالقوة يُشرعن بالقانون.
وأن من لا يملك… يُقصى باسم النظام.**
من صراع الإمبراطوريات إلى صراع الأفراد
ما بدأ كتنافس بين إمبراطوريات على الأراضي والثروات،
تحوّل إلى نزاع بين الدول،
ثم إلى منافسة شرسة بين الشركات العابرة للقارات،
ثم انتهى إلى ما نحن عليه الآن: صراع أفراد على البقاء،
على لقمة العيش، وشربة الماء، ونسمة الهواء.
لقد سقطت الفواصل بين السياسي والاقتصادي، وبين الأخلاقي والسلطوي.
فالاحتكار باسم القانون بات أعنف من الاحتلال بالقوة.
فلسفات بديلة للملكية
جان جاك روسو رأى أن اللحظة التي قال فيها الإنسان "هذا لي" كانت بداية الفساد البشري.
كارل ماركس اعتبر أن تملّك وسائل الإنتاج أصل التفاوت الطبقي والاستغلال.
هنري جورج دعا إلى فرض ضريبة على الأرض لصالح المجتمع، باعتبار أن الأرض ملك مشترك.
أما الإسلام، فقرّر أن الأرض لمن يحييها، لا لمن يشتريها: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له."
نداء للعقل والضمير
القانون لا يُعدّ عادلًا لمجرد أنه مكتوب،
ولا الملكية تُصبح شرعية لمجرد أنها مسجّلة،
ولا المنفعة تُبرّر المصادرة.
لقد آن للعقل أن يراجع ما كان يظنه بديهيًّا،
وأن نعيد مساءلة هذا العالم "المُشرعن" بالقوة:
هل ما نملكه… نملكه حقًا؟
أم أننا مجرد مُستأجرين في أرضٍ وهبها الله للجميع،
فاستحوذ عليها من يملكون أدوات التشريع، وسدّوا الأفق أمام من لا يملك إلا حقّه الطبيعي؟

